بي بي سي عربي من “هنا لندن” إلى العصر الرقمي
كانت دقات “بيغ بن” عبر الأثير وكلمتا “هنا لندن” مدخل الكثيرين في منطقتنا إلى بقاع أخرى من المعمورة. لم تكن الإذاعات المحلية تشبع الرغبات في معرفة ما يجري بعيدا وأحيانا قريبا من المنطقة. مؤشر جهاز الراديو كان الدليل رغم أن تحريكه يتطلب دقة بالغة للوقوف على المحطة الهدف. الصوت يرتفع وينخفض، يظهر ويغيب. الموجة القصيرة أو المتوسطة، سبب للخذلان أحيانا… حتى أتيحت الفرصة لموجات “أف أم” لتحل محلهما.
بدأ القسم العربي في بي بي سي بإذاعته العريقة، ملأت أصوات مذيعيه الأثير وانتشرت شهرة برامجه الإخبارية والثقافية والترفيهية في أصقاع عالمنا العربي.
كانت الإذاعة آنذاك سيدة المشهد بعد أن ولجت كل مكان، أما الصحف فلنُخب المدن… ثم دخلت الشاشات إلى البيوت محليةً محدودة قبل أن تنتقل إلى مرحلة الانتشار عبر الفضاء الشاسع والزمن المتسع.
بي بي سي عربي لم تتقتصر على الصوت بل تعاملت مع الكلمة المكتوبة أيضا، ذلك عبر مجلاتها الشهيرة: “المستمع العربي” و”هنا لندن” و”المشاهد السياسي”.
وإذا كان الشعور في ذلك الزمن أن التقدم التكنولوجي يسير وئيداً، فإن عالمنا سرعان ما صار يعجّ بالمتغيرات منذ أن بدأت كلمة جديدة غريبة تطرق المسامع: “كومبيوتر”!
ظهر الكومبيوتر بأشكال وحجوم قد ترسم على شفاهنا الابتسامة إن رأيناها في أيامنا هذه. منا من خدمته الظروف ليرى بداياته ومنا من ظل يرسم ملامح القادم الجديد في خياله وانتظر بعض الوقت ليستكشف أسراره.
التغيرات بدأت تتسارع بإيقاع أقلق الكثيرين وأثار ريبة البعض. دخلت الآلة الحديثة بأشكالها الأولى إلى بعض مواقع العمل والدراسة. اتسع نطاقها وتطورت قدراتها. وبدخول شبكة الإنترنت ومن ثم الهاتف المحمول، خطا عالمنا خطوات متسارعة قلصت المسافة واختصرت الزمن وكادت أن تلغيهما.
واقع جديد للاتصال صار يتشكل، إذن، وملامح غير مألوفة للإعلام أخذت تظهر، بينما تولت الشبكة الإلكترونية مهمة إعادة صياغة المفاهيم.
كيف كانت البداية؟
بعد أن دخلت بي بي سي الأم مضمار الصحافة الإلكترونية، تقرر أوائل عام 1998 أن يخوض القسم العربي التجربة.
فريق صغير بدء العمل على موقع إخباري في القسم العربي والمشروع كان تجريبيا، كما فهمنا، والاستمرار فيه يعتمد على تطور التجربة بل على نجاحها. لكن ذلك لم يكن مقلقا، فمن الواضح أن العالم يسير حثيثا بهذا الاتجاه.
بذرة الإعلام الحديث التي انغرست قبل عشرين عاماً في القسم العربي في بي بي سي ظلت تنمو لتؤتي ثمارها، ومعها بدأت تجربة العاملين في القسم والملتحقين فيه بخوض غمار الصحافة الإلكترونية.
واصلنا العمل الذي بدأناه بإمكانيات أولية، وأخذت معالم التجربة تتضح أكثر وتثبت جدواها ومدت تلك البذرة جذورها أعمق.
كان عملنا يشمل تهيئة المواد الاخبارية للصفحة الإلكترونية الجديدة عندما كان الموقع في مرحلته “الجنينية”. والبداية كانت متواضعة تقتصر على صفحة عادية نطبع عليها الاخبار ثم ننقلها من الكومبيوتر الى الشبكة عبر بروتوكول نقل الملفات (FTP). والصفحة الإلكترونية كانت، آنذاك، تجدد على رأس كل ساعة بالتزامن مع النشرات الاخبارية في الاذاعة. Image caption صفحة موقع بي بي سي العربي في أولى اصداراتها عام 1998
لكن محتوى النشرة الإخبارية الالكترونية صار يتغير تدريجيا بإضافة مواد أخرى على صيغة ملفات وتحليلات وموضوعات منوعة وعروض للصحف مع إضافة الصور.
الفريق كان صغيرا حينها، إلا أنه حظي بالدعم، صحفياً من طاقم القسم العربي، وفنياً من الخدمة العالمية لبي بي سي. عملنا يجري ضمن جدول عمل متعاقب لا نلتقي إلا قليلا والتواصل يتم عبر الهاتف. وكان تجديد الصفحة الإخبارية يقتصر على 12 ساعة في اليوم.
بقينا فريقا صغيرا لفترة عام تقريبا، ومن ثم توسع الفريق بانضمام زملاء جدد بعد أن اثبت المشروع جدواه، خصوصا أن شبكة الإنترنت باتت تفرض ضرورتها كوسيلة مذهلة في تطورها المتلاحق وأخذت تحد من هيمنة وسائل الاتصال التقليدية.
من هنا بدأت الأمور تنتظم ودخلنا في مرحلة الإعداد الصحفي والتقني. وباعتبارنا جزءا من بي بي سي الكبرى استفدنا من موقع بي بي سي الاخباري باللغة الإنجليزية ذي الخبرات المتميزة، وذلك من حيث التدريب على الكتابة للموقع الإلكتروني والأسلوب التحريري في بي بي سي، فضلا عن التمرن على التقنيات وبرامج الكومبيوتر المعتمدة.
ومع بدء الألفية الجديدة شهدت صفحات موقع بي بي سي العربي قفزات نوعية. وحصلت انطلاقات عدة للموقع سجل فيها تغيرا واضحا في الشكل والمحتوى والحجم، حتى وصل الى صيغته الحالية، آخذا بالاعتبار ما يفضله قراؤه ومقدما خدماته على مدى 24 ساعة.
وأصبح الموقع، إضافة لكونه جريدة إلكترونية غنية، ناقلاً لمحتوى بي بي سي بأشكاله المختلفة، الإذاعية والتلفزيونية، بعد أن دخلت بي بي سي، بريادة، إلى عصر الوسائط المتعددة. وبات المحتوى متنوعاً، نصاً وصورة وبالفيديو والصوت، متوفراً على الإنترنت وفي مواقع البحث والمواقع الأخرى التي تنقل عنه.
وبالنتيجة غدت مادته حاضرة في مواقع التواصل الاجتماعي، بينما أخذ جمهوره يتفاعل مع المحتوى الذي تقدمه بي بي سي عربي عبر الأجهزة الحديثة بأشكالها.
ومع التقدم التقني خضع موقع بي بي سي عربي لتغييرات متتالية، لكنه لن يتوقف عند هذا الحد، إذ لا يزال مستمرا بالتطور تماشيا مع سيرورة تكنولوجيا المعلومات التي لا تلتفت الى الوراء أبدا.