الشريف زين العابدين الهندي : شاعر سياسي أم سياسي شاعر؟
لم يصدر الشاعر الراحل زين العابدين الهندي , شعره في ديوان , بل كان يدونه في وريقات متفرقات , تعرض بعضه للضياع , ويقال أن البعض من شعره قد أهداه للأصدقاء من الشعراء وأهل الغناء والطرب دون أن يذكروا فيه اسمه . وهذه الدراسة استقيناها من بعض أشعاره التي نشرت في كتاب بعنوان { الشريف زين العابدين الهندي – الصوفي المعذب , السياسي المتمرد , والشاعر الثائر } . جمعه الدكتور عبد الرحمن علي , وقام بإعداد حاشيته , الأستاذ عبد الحميد محمد أحمد . وقد قاما بمجهود كبير , رغم بعض الأخطاء التي تصاحب جمع مثل هذه الأشعار المتفرقة . ورغم أن أغلبها لا تحمل التوقيع الزمني لها , ولكننا يمكن أن ندرج الشاعر زين العابدين الهندي , ضمن شعراء حقبة السبعينات وما بعدها في السودان . ومن قراءة متأنية لهذه الأشعار المجموعة , يمكن أن نقول بأن شاعرنا الشريف , قد ظل يكتب الشعر حتى آخر لحظة في حياته , وهو في المستشفى , والدم قد نزف من يده المحقونة ورآه بلونه الأحمر القاني وهو يسيل في الأرض , كتب هذه القصيدة والتي أطلق عليها ‘‘ قرمزي اللون ’’ ومن أبياتها :
أنزف فلا شرق يضمك في الحياة ولا جنوب
أروي ظمأ الأرض بلونك الزاهي القشيب
أنثر وشاحك ذلك القاني كألوان اللهيب
أنزف فلن ينجيك بعد اليوم خفق أو يعاودك الوجيب
أنزف تحرر من ركان الطيب واجنح للوثوب
أسبح على سفن النجاة وطربها نحو الغيوب
كانت هنا أم المعارك وانجلت كالمستريب
وهذا يؤكد قولنا بأنه قد ظل يكتب الشعر حتى آخر لحظات حياته , مثل الشاعر المصري ‘‘ أمل دنقل ’’ , في غرفته رقم ثمانية في مستشفى أمراض الدم في القاهرة . فلكل مقام عنده لحظته الشعرية حتى ولو كانت حزينة ومؤلمة . فهو شعر الموقف اللحظي العفوي الصادق في عاطفته والذي يأتي مصحوباً بقوة الإحساس غير المتكلف المصنوع . ويمكن القول بأنه شعر الموهبة المصقولة والتي ساعدت في نموها وظهورها عدة عوامل ومرجعيات مساعدة . وأول هذه المرجعيات , هي المرجعية الدينية المتصوفة . ولا يعني هذا أنه قد كتب شعر التصوف , رغم أن له نفحاته ورموزه الخفية في أكثر من قصيدة . يقول في رثائه للراحل الملك حسين
كل الحياة يرى في طيها العدم وكل ما يزدهي أمل الوى وهم
وهكذا صيغت الدنيا وزخرفها وان بدا فهو موجود ومنعدم
في كل يوم يواري تربها قمراً حتى استحالت كله ظلم
ما طاب للعيش طيب في مناكبها إلا وأعقبه التبريح والألم
وفي هذه الأبيات وغيرها يبدو زهده في الدنيا ومفاتنها واضح وجلي . ومن هذه البيئة الدينية التي تربى فيها استفاد كثيراً من اللغة القرآنية والمعلومة الفقهية , فقد درس في الخلوة وفي كلية دار العلوم بمصر , ومن هنا تأتي مرجعيته الثقافية , حيث قوة مناهج كلية دار العلوم في اللغة العربية , وكذلك صحبته لخاله المحامي أحمد خير والذي حفظ معه شعر المعلقات وغيره من الشعر الجاهلي والإسلامي في شتى المدارس . وكواحد من شعراء السبعينات في بلادنا والعالم العربي , فقد تأثر بالمرجعية التراثية للثقافة العربية , وأصبح عندهم هو الجسر القوي الذي يربط بين الماضي والحاضر .
في الخطاب الشعري للشاعر الشريف زين العابدين , نجد قوة المفردة وقد تميز هذا الخطاب بالموسيقية العالية حيث حافظت القصيدة عنده على وحدة الوزن والقافية . وحيث جعلت القصيدة عنده متأثرة بانفعال اللحظة والمناسبة التي تجعل القصيدة تكتبه ولا يكتبها . وأغلب قصائده ذات نفس ملحمي عميق , من ما يؤكد على طول النفس الشعري في قصائده . يقول في القصيدة التي يخاطب بها والده الشريف يوسف الهندي ( لكي لا ننسى)
جرّد سلاحك يا أبي وأسرج على الفرس اللجام
وأنثر كنانتك المليئة بالسهام
وامتشق هذا الحسام
وقف على الجيش العرمرم بالتمام
يا بن الأكرمين الأرابيب الجلاوذة الهمام
يا بن الألى نشروا على الدنيا السلام
نحن انطلقنا يا أبي
وإن الحرب أولها الكلام
تحس بصدق القصيدة الانفعالي العاطفي , وأنها قد كتبت بتقنية هذا الانفعال الصادق , فجاءت تحمل معها صدقها الفني أيضاً . وأغلب قصائده تمتاز بهذا الصدق الفني والعاطفي , والتي تكشف عن قوة المخزون الغوي لديه , فصيحه وعاميه . وهذا المخزون سريع الاستدعاء عنده يأتي بغير كلفة ولا صنعة . فيستخد الكثير من الكلمات الفصيحة المنسية { الجلاوذة – الزنيم – البعاليل – والقصع الثريد – أصرع من يصارع – وأروع من يراوع – وهذا ما يؤكد قوة المرجعية اللغوية الثقافية عنده . ومن حبه للتراث يقول في قصيدة ترحيب بالشاعر محمد الفيتوري :
وأبعث تراثاً قديماً طال مرقده قد أذن الصبح والآذان والأذن
يا واهب الضوء والإشراق في زمن قد كان ديجوره يمشي به الزمن
ما زال مشعلك الوضاء مؤتلقاً يرنو له الدوح والوجدان والوطن
وتأثير المرجعية الدينية , عنده يظهر جيداً في توظيفه الرائع والجيد للمفردة القرآنية , ‘‘ وصاروا لججاً , من فوقهم لجج ’’ , و ‘‘ كأنهم خشب مسندة ’’ , والعرصات , والثقلان , و‘‘ أليس بينكم رجل رشيد ’’ . ومن أهم مرجعياته , هي المرجعية الوطنية . فهو ابن واحد من أقطاب السياسة الوطنية في السودانية , واستفادت وطنيته من شعريته , واستفادت شعريته من وطنيته , وهذه الوطنية هي عاطفة موجودة بداخله , فشعره يمتاز بالحكمة الوطنية . فعنده الوطن أكبر من الحزب الذي ينتمي إليه وعندما يحس يشعر بأن هنالك من يريد إيذاء الوطن وخيانته فشعره يتحول إلي ثورة عارمة وهجاء مر .
نسيتم كل وعد قلتموه على الهيجان أيام الأماسي
إذا قيل وغد أو زنيم أجاب الناس هذا هو السياسي
سعيتم للنيابة في سعار كيما تركبون على البكاسي
تبيعون الضمائر غير خوف ويعمل بعضكم في الاختلاس
فالسياسي الذي بداخله , لم يصنع منه شاعراً , وإنما استفادت السياسة من هذه الشاعرية , فنادي به لحب الوطن والتضحية من أجله . فهو شاعر سياسي , ممتلئ وجدانياً بحب الوطن , لذا فله مبدأ يدافع عنه , أما الشاعر السياسي فله مصلحة يدافع عنها . والشاعر السياسي بمبدئه هذا فهو إنساني يعرف كيف يدافع عن إنسان الوطن المظلوم والمنسي في دنيا السياسة . فالوطن عند شاعرنا الشريف زين العابدين الهندي , ليس هو الحدود الجغرافية , وإنما هو التراث والدين والعرف والقيم الأخلاقية , يقول في قصيدته التي يخاطب بها الفيتوري :
فاستصرخ الصبح أن الشمس آتية تكاد من روعة الأنشاط تفتتن
فقم محمد وأنسج ضفائرها لحن الشروق فقد وافى به الزمن
وأشهر يراعك فقد ملّت مرافينا لحن الشروق فقد وافى به الزمن
وأبعث تراثاً قديماً كان مرقده قد أذن الصبح والآذان والأذن
يا واهب الضوء والإشراق في زمن قد ديجور يمشي به الزمن
ما زال مشعلك الوضاء مؤتلقاً يرنو له الدوح والوجدان والوطن
ولخلفيته الدينية , يحول كل وطن للمسلمين , وطناً له ويبكي على التاريخ الإسلامي القديم وأجمل ما عبر عنه في ذلك هي قصيدته ‘‘ بكائية على أبواب أشبيلية ’’ ,
ويزْورُ ضوء الشمس من سوء ما يرى
وتخسف أنوار تغور وأنجم
أهذا هو الإنسان والدين والحجى
أهذا هو الإسلام أن قال مسلم
وما الفرق بين اليهود وبينكم
وعاركما يأباه عيسى ومريم
وأين رسول الله مما انتهجتمو
أكان عصاباً أم حليماً وأرحم
وهل كان فظاً عابساً ومولياً
ومتخذ ضغناً يجور وينقم
وهل شرعة الأخلاق في أي ملة
تبرر فعل الصرب أم أنت منهم ؟
ولعل شاعرنا قد كان مع الموهبة مؤهلاً لتجويد الشعر , وإتقانه , ولقد كان موقعه الديني والسياسي , يدعوه لهذا التجويد والإتقان , وحركته وسط جماهيره تدعوه ليجود خطابه الشعري ويتقنه , حسب نظرية الاتصال الجماهيري الحديثة . وهذا الاحتكاك اليومي مع المريدين , وأعضاء الحزب , جعلت وجدانه الجماهيري عالياً , منذ صغره . وكانت حواسه عالية في معرفة النبض الجماهيري ومعرفة أشواقه وآماله . يقول في قصيدة البطل الشهيد :
عماد الحكم عماد السجايا
عميد المجد معمود الخلود
عوّان المسنين من البرايا
معين الناس موّان الكدود
سراج الساهرين على الليالي
سياج المعوذين من البرود
فالإنسان النموذجي فكرياً وسياسياً يجب أن يحمل هذه الصفات , يعين المسنين , ويكون كريماً وعطوفاً وفي خدمة الفقراء والمساكين . ولارتباطه بالهم الوطني العام , جعلته يستوعب الواقع الثقافي للمجتمع السوداني , وخير نموذج لذلك هي قصيدته شبه الملحمية ‘‘ أوبريت سودانية ’’ , والتي تعتبرأطول مسدار في تاريخ الشعر السوداني , والتي صاغها بالعامية .
كان مقلاً في الشعر العاطفي , ولعل الكثير من غزله يرمز به للحبيبة الوطن كما في قصيدته ‘‘ ليتني ’’ وبعد غزله التي تظن بأنه لفتاة معينة , يقول في ختامها ‘‘ ليتني لو كنت أصغر / أو ليت لو عمرك أكبر / يا بلادي . ’’ . ومن أجمل قصائده العاطفية ذات النفس الشعري العميق , هي قصيدة ‘‘ التايبست ’’ , والتي يقول فيها / هاهو التايبست قد هلّ وكل السعد في الدنيا حضر / هالة قد ضمت الدر وأوحت بملايين الصور / ذهب وياقوت وماس ولآلئ ودرر / مهرجان النور والأضواء في فجر الصباحات الغرر / يا ربيع الكون في الدنيا ويا ضوء القمر . ونجد النفس الرومانسي عالياً فيها , مع صدق العاطفة التي جعلت الصدق الفني أقوى وجاء النفس الرومانسي فيها من التعبير الصادق عن ذاته المنفعلة بهذا الجمال , والانفعال الإيماني العميق بمن خلق هذا الجمال وصوره / يا إلهي أي سحر صغته فتراءى في نهود في بشر / .
إن الخطاب الشعري , عند الشاعر الشريف زين العابدين الهندي , يمتاز بلغة رصينة وقوية , واستخدم كلمات فصيحة منسية , ولكنها قد جاءت مفهومة في سياق الجملة الشعرية . يستخدم كلمات كالوجيب / والحور / والبهر / والأتلع / والأملد / والمئزرات / والجوى / والخديْن / . ورغم هذه الفصحى لم يأتي شعره غامضاً , وبهذا استفاد بذلك من السياسي الذي بداخله لكي يكون خطابه واضحاً . وبهذا شعره يتطلب النبرة الصوتية القوية خاصة في شعره السياسي الوطني , يكثر فيه من أدوات النداء وتكرار المفردة أكثر من مرّة .
كتب شاعرنا بالعامية والفصحى , مثل والده الشريف يوسف الهندي في ديوانه ‘‘ رياض الصالحين ’’ , وقصيدة أوبريت سودانية , كلها بالعامية , وظّف فيه المفردة العامية السودانية بجدارة , ويعتبر قاموساً مصغراً لها طّف فيه بأرجاء البلاد الأربعة , كتب ثقافتها وفولكلورها الشعبي , وتاريخها المنسي . وهو بحسه الوطني العميق , تحس بأن هذا الأوبريت موجه للرجل البدوي السوداني في جهاتنا الأربع .