تأطير سلام جوبا والحرب مع إثيوبيا وأهمية تشكيل المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية
حسين أحمد حسين
حُبابة
ذكرنا في مقالنا رقم (3 – 100) من سلسلة في شأن تعضيد الاقتصاد المدني المتعلق بـ “كيفية الانتقال من الكينزية العسكرية إلى الكينزية المدنية”، أنَّنا نحتاج إلى فهم طريق التطور الرأسمالي الذي يتبعُ نموذجاً محدَّداً لتطوير قواه المنتجة وبالتالي المحافظة على البقاء الآني (إشباع الحاجات) والاستراتيجي (استدامة إشباع هذه الحاجات لأكبر فترة ممكنة مع تحقيق أرباح). ويُمكن تلخيص هذا النموذج في الصيغة التالية:- “تناقص الأرباح/الكساد – الحرب – التسوية الاقتصادية الجبرية – تناقص الأرباح/الكساد من ثان – ثم الحرب من جديد، وهكذا دواليك”.
وذكرنا أنَّ الحرب الظاهرة في هذا النموذج قد تمَّ الاستعاضة عنها بين الدول الرأسمالية المتقدمة، عقب الحرب العالمية الثانية بالمنافسة الاقتصادية، أي ما يُعرف بالكينزية المدنية. أما المنافسة بين الدول الرأسمالية المتقدمة في الخارج، أي على مسارح دول العالم الثالث، فقد تجنح لإشعال الحروب لتحقيق أهداف اقتصادية – ما يُعرف بالكينزية العسكرية (Cox, in Middleman (ed) 1997).
ولذلك فإنَّ ميل الأرباح للتناقص وميلها للزيادة في هذه الدول المتقدمة قد صارا مؤشرين مهمين في إطار عمل هذا النموذج، خاصةً بعد اكتشاف قوانين تناقص الغلة الصناعي والتجاري والخدمي وغيرها، إلى جوار قانون تناقص الغلة الزراعي المكتَشف منذ عهد الاقتصاديين الكلاسيك.
فمثلاً، مؤشر زيادة الأرباح في إطار دورة الأعمال (Business Cycle) في الدول الرأسمالية المتقدمة، دائماً ما يكون موسِماً لمبارزة الأحزاب السياسية لخدمة شعوبها ومن ثمَّ موسماً لإعلان الانتخابات. في حين أنَّ مؤشر ميل الأرباح للتناقص دائماً ما يتبعه إعلان حرب في دولة ما من دول العالم الثالث، خاصةً تلك الغنية بالموارد. فالرأسمالى الشَّرِه في الدول الغربية المتقدمة من الممكن أن يشعلَ حرباً ضد رأسمالي غربي آخر منافس له على مسرح دول العالم الثالث (التنافس الروسي الأمريكي على موارد السودان الآن)، لمجرد أنَّ أرباحه من المتوقع أنّْ تميل للتناقص بعد حين (كما هو شاخص بسبب جائحة كورونا في الوقت الراهن)؛ وسوف لن تتوقف تلك الحرب إلاَّ إذا أوجد تسوية اقتصادية تُغنيه عنها.
ومن المهم أن نفهم أيضاً أنَّه في هذه الحرب نفسِها لن تلتقي الجيوش الغربية لتتلاحم لتفنِي بعضها البعض كما حدث في الحربين الكونيَّتين الأولى والثانية (لن يتصارع الروس والأمريكان بجيشيهما على أرض السودان)، ولكن قد تنشأ حربٌ بالوكالة (بين دولتين جارتين أو بين أنصار الروس: حميدتي والحركات المسلحة ونخب الجيش أو ما يُسمَّى بمجلس شركاء السلام، ضد أنصار الأمريكان: د. حمدوك والثوار والكوادر الوسيطة في القوات النظامية وتلك المُحالة للمعاش) كما حدث في الحرب العراقية الإيرانية، الحرب الكورية، حرب فياتنام؛ أو حرب داخلية أخرى (الغرابة ضد الجلابة) كما حدث بالأمس القريب فى السودان والصومال واليمن؛ أو حرب ذكية/بايولوجية تستخدم فيها فايروسات مميتة (أمريكا ضد الصين كما تظهره الاتهامات المتبادلة من حين إلى آخر) كالتي نحن فيها الآن.
ولقد وجدنا أنَّ هذا النموذج يعمل بهذه الكيفية منذ اقتداح الأوروبيين للحروب الدينية في القرن الخامس عشر إلى يوم النَّاس هذا. ولعل مزيج هذا النموذج من الكينزية المدنية والكينزية العسكرية قد تم استخدامه لإعادة صياغة الشعوب وفق الهوى الرأسمالي منذ ذلك التاريخ. وأعظم إفعال لإعادة صياغة العالم فى التاريخ المعاصر وفق الهوى الرأسمالي هو رسملة المعسكر الاشتراكى/الشيوعى؛ حيث ما عاد العالم الآن منقسماً بين دول رأسمالية وأُخرى شيوعية فيما بعد الحرب الباردة (Duffield 2008).
إذاً، نموذج متلازمة رأس المال/الحرب المذكور بعاليه، لم يُستخلص من مفاهيم نظرية أداتية وترف أكاديمى بحت، ولكنه مسنود بمسطورات التاريخ. وللمزيد من التأكيد على ذلك ومن واقع تحليلنا لحروب رأس المال، اتضح لنا “أنَّ الحرب العالمية الأولى سبقها تناقص أرباح/كساد حاد – كما أخبر عنه أوبراين ووِليامز عام 2007 ((O’Brien and Williams 2007 – أدى بدوره لتنافس الدول ألأوربية على المستعمرات واندلاع الحرب العالمية الأولى 1914. وقد وصل العالم بعد تلك الحرب كما هو معلوم إلى تسوية فراساى عام 1919م وإنشاء عصبة الأمم. ثم حلَّ بالعالم بعد تلك التسوية ما يُعرف بالكساد الكبير 1929م، والذى أدى بدوره إلى الحرب العالمية الثانية في العام 1939. وأعقب الحرب العالمية الثانية تسوية بريتون وودس (Bretton – Woods) عام 1945.
ومنذ بريتون وودس، فإنَّ النظام الرأسمالى قد مرَّ بعدة مراحل من الكسادات التي أدَّتْ إلى عدد من الحروب بين الدول الرأسمالية المتقدمة ولكن على مسارح دول العالم الثالث. وآخر هذه الكسادات هو كساد 2008 الذى ظل مستمراً إلى نهاية العام 2019، والذي من أجل تلافيه قامت الحرب بين السعودية وإيران وحلفائهما على مسرح اليمن (أُنظر الرابط أدناه)*، إلاَّ أنَّها لم تقضِ على ذلك الكساد، فكان أن دخل الاقتصاد الرأسمالي في الحروب الأكثر ذكاءاً بدخول جائحة فيروس كورونا على الخط منذ بداية الربع الأول من عام 2020. وهي حرب، رغم برمجتها على الحامض النووي للشعوب، وبالتالي لتقضي على المِلل (ذات الانفجار السكاني) والإثنيات الغير مرغوب فيها وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة الذين يشكلون عبئاً مالياً على حكوماتهم؛ إلاَّ أنَّها أصبحت حرباً شاملةً الآن.
وهكذا يعمل نظام التطور الرأسمالى فى إطار حلقتِهِ المُفرغة: الكساد – الحرب – التسوية – الكساد – الحرب من جديد منذ زمانٍ ليس بالقريب. عليه، يجب الانتباه إلى أنَّه بمقتضى هذه المتلازمة قد لا يكون هناك فكاك من الحروب في طريق التطور الرأسمالي. والعاقل من الحكام فى دول العالم الثالث عموماُ وفي السودان على وجه الخصوص (if any)، هو من يتجاوز الحروب بالدلوف إلى التسويات (إلى الكينزية المدنية) ليُجنِّب شعبه ويلاتها كما كان يفعل الملك عبد الله بن عبد العزيز – أبو مُتْعِب والسلطان قابوس رحمهما الله.
لذلك علينا ألاَّ نكون طرفاً في أيِّ حربٍ داخليةٍ أو في محيط إقليمنا إذا ما استطعنا لذلك سبيلا. فلنا العديد من القضايا المعلقة فيما بيننا ومع بعض الدول المجاورة لنا كإثيوبيا ومصر والسعودية وغيرها، التي يجب أن ننظر في أمرها عبر بوابة الحوار المستفيض الواعي إذا كانت متعلقة بالداخل، وعبر القانون والتحكيم الدوليَيْن والتسويات التي تصب في مصلحة السودان في المقام الأول والأخير. وعلينا ألاَّ نستجيب لأيِّ بادرة حرب من هذه الدول مهما كان من أمر. ويكفينا أن نكون دعاةَ سلامٍ حقيقيٍّ وتسوياتٍ ما بقيت التسوية بديلاً للحرب، بالرغم من أنَّ التسوية أحياناً لا تبعد شبح الحرب، وذلك حينما تكون الحرب سلعة تتحدد بالعرض والطلب والفرصة البديلة كما يقول ميشيل فوكو وهيرشليْفر (Hirshleifer 2001).