الدراما السودانية.. قطاعٌ يُعاني، أزماتٌ تَتجدَّد واستغاثات
الخرطوم: رؤى الأنصاري
تاريخٌ حافلٌ ومضيء حظيت به الدراما السودانية، منذ الستينيات، شهد حركةً نشطةً في الإنتاج مما شكَّل حدثاً ثقافياً مهماً، وينسب الفضل في ذلك للرعيل الأول من جيل الدراميين والمسرحيين السودانيين، منهم الأستاذ الفاضل سعيد الذي يعتبر من مؤسسي دراما التلفزيون القومي، وكان له دورٌ كبيرٌ في أن تكون الدراما أسلوباً للمعالجات الاجتماعية، مثل برنامج (تحت الأضواء) و(أمسيات)، وشارك الفاضل سعيد من خلال برنامج (مسرح المجتمع 1965م) الذي كان يقدمه الأستاذ حلمي إبراهيم. كما كان ذاك عصر الرائدات الأوائل أمثال الأستاذة آسيا عبد الماجد، التي تعتبر أول امرأة سودانية تصعد خشبة المسرح القومي، من خلال دورها في مسرحية (خراب سوبا) (1966م).
وشهدت تلك الفترة وما بعدها أيضاً إنتاجاً درامياً تمَّ الاحتفاء به من كل السودانيين، وشهد كذلك التفاف الناس في البراحات والميادين والبيوت حول التلفزيون (الأبيض والأسود) لمتابعته، ثم توالت وأُنتجت أعمالٌ رسخت في ذاكرة السودانيين وحوتها مكتبة التلفزيون، مثل: (سكة الخطر)، و(دكين)، و(أقمار الضواحي)، و(الدهباية)، (والشاهد والضحية)، و(بيوت من نار). ولكنَّ القطاع شهد تدهوراً مريعاً، وإحجاماً عن الفعل الدرامي وتراجعاً واضحاً، ولم تعد الساحة كما كانت سابقاً، إلا باجتهاد قليل من بعض القابضين على الجمر، ومحبي المهنة، والحريصين عليها .. فما هي أسباب هذا التراجع، وما هي المعوقات التي تحول دون وجود الدراما كفعل حي يعالج قضايا المجتمع، وما هي الحلول التي يراها الدراميون لخلق واقع أفضل وبيئة عمل صالحة ومتعافية للعمل الدرامي؟
افتقار للدعم
الممثل والمنتج والمخرج، الكندي الأمين، قال إنَّ أهمية الدراما تكمن في تقديم الحلول لكل قضايا ومشاكل المجتمع، وإنَّ الفعل الدرامي سريعٌ في إيجاد تلك الحلول والمعالجة، أكثر مما تقدمه ندوةٌ سياسيةٌ أو حوارٌ مجتمعيٌّ أو مؤتمرٌ صحفي، وأضاف: “معوقات كثيرة تقف في طريق الإنتاج الدرامي، منها الدولة نفسها متمثلة في المؤسسة الحكومية المسؤولة عن الدراما كقطاع حيوي يفتقر للدعم، لا نعلم لماذا؟! هل هي قناعات لديهم بأنَّ الدراما ضعيفة؟! هل يعتقدون أنَّها عبارة عن لهو ولعب وعدم جدوى، لذلك لا يجدون منها الدعم الكافي؟!”.
وأوضح الكندي أنَّ تلفزيون السودان أو (تلفزيون الدولة) – حد قوله – والمنوط به إنتاج العمل الدرامي ورعايته وتقديم العون، منذ وقت طويل لم ينتج عملاً درامياً واحداً، رغم أنَّه يوجد قسمٌ كاملٌ في التلفزيون يسمى (قسم الدراما)، وبه موظفون يتقاضون مرتبات لتحريك دولاب العمل الدرامي، وأضاف: “هم الآن قاعدين ساي، مافي شغل درامي، بعكس الفترات التي كان ينشط فيها الإنتاج”. وقال: “كانت هناك أدوات للإنتاج منها عربات لخدمة الدراما، وكاميرات مخصصة، وصالة للبروفات، وقسم للسيناريو، والإخراج، والإنتاج، والآن كل ذلك لم يعد موجوداً”.
إعادة مسلسلات قديمة
وكشف الكندي الأمين عن أنَّ رؤوس الأموال (المنتجين) يتخوفون من إنتاج الدراما، ويقولون ليس لديها سوق ولا تجد ترويجاً، وقال: “نتمنى أن تجد الدراما سوقها وترويجها، وأن يهتم التلفزيون القومي بالدراما وتعود إلى سابق عصرها”. وذكر بأنَّ التلفزيون والإذاعة الآن يعيدان بث المسلسلات القديمة، لعدم إنتاجهما مسلسلاً لأكثر من أربع سنين، وأضاف أنَّ البرامج الإذاعية كانت تتخللها الدراما بنسبة (70%)، والآن المتداخل حوالي (7%)، متمثل في برنامج (ناس وأحداث) و(اسألوا أهل الذكر)، ولا توجد معالجة درامية للبرامج الإذاعية، وتلك مشكلة كبيرة – حد قوله.
وتحدث الكندي عن الإدارات المتعاقبة للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، وقال: “جميعهم لم يحدثوا التغيير الإيجابي المطلوب، والمدير الحالي الموجود، الأستاذ لقمان أحمد، وعدنا كثيراً بإنتاج درامي كثيف، وحدثنا عن أهمية الدراما، لكنَّه لم ينفذ ما قاله حتى الآن، بل بالعكس أجحف حق الدراميين العاملين بالتلفزيون في قيامهم بالأعمال الدرامية سواء التمثيل أو الإنتاج دون استحقاق إضافي ويصرف له مرتبهم فقط، وهو ما أضر كثيراً بالدراما، وتمَّ الإحجام عنها، باعتبارات عدم التحفيز، والمرتبات معلومة لدى الجميع قليلة ولا تحتمل عبئاً إضافياً”.
تغيير شامل
وعن الحلول التي يراها لخلق واقع درامي معافى، قال الكندي: “يجب أن يحدث تغييرٌ شاملٌ وإيجابي، يستوعب العمل الدرامي كفعل حي وموجود ومهم، أن تعي رؤوس الأموال أهمية الدراما في معالجة القضايا والمشاكل على جميع الأصعدة، وأتمنى أن يوجه وزير الثقافة والإعلام المؤسسات برعاية ودعم الدراما، مثل شركات الاتصالات، يعني إذا دفعت تلك الشركات لإنتاج مسلسل واحد ضخم في السنة لن يضرهم ذلك شيئاً، بل سيضيف لهم وللدراميين الكثير بتفعيل العمل الدرامي”.
وختم الكندي حديثه قائلاً: “نتمنى أن تسير الأمور نحو الأفضل، أن تعمل حكومة التغيير على أن يكون هناك تغييرٌ إيجابيٌّ يعلي من شأن الدراما والدراميين، كل قطاعات الآن المجتمع تعاني، ليست الدراما وحدها، ونكاد نلمس عدم الرضا عن تسيير دولاب أعمالها بالصورة المطلوبة، هذا بالإضافة للمشاكل الصحية التي تجتاح البلاد، نسأل الله أن يلطف بالسودانيين، وتكون 2021 سنة خير وصحة وعافية، وينصلح اقتصادنا، ويعم السودان الرخاء والنعيم والوفرة”.
أداة ضرورية
ومن جهتها؛ قالت الممثلة والدرامية الشابة، صفاء زيدان: “الدراما تعالج أي مشكلة في العالم، وتعتبر الأداة الضرورية لتوصيل المعلومة للناس بكل سهولة، لأنَّها خالية من التعقيدات. مثلاً، انتشر قبل فترة مرض الإسهالات المائية في السودان، قمنا بجولة على المناطق المصابة، رغم أنَّ المرض معد، قدمنا إرشادات وروشتات تثقيفية في قوالب درامية، كانت استجابة الناس كبيرة، وانحسر المرض بصورة واضحة. وكانت قد طافت قبلنا وزارة الصحة ومجموعات من التأمين الصحي، إلا أنَّ الاستجابة كانت عبر الدراما كبيرة جداً”.
وأضافت: “نحن كدراميين نحتاج تعاوناً من الدولة، أن يتعاملوا معنا بأنَّنا شركاء في الهم ومعالجة قضايا المجتمع. اهتمام الدولة بالدراما ضعيف جداً، هذا إن وجد، واللافت للنظر أنَّ الفنانين المغنيين يجدون اهتماماً ورعاية كبيرة من الدولة بعكس الدراميين. يتمثل ذلك في تسهيل إقامة الحفلات الجماهيرية وغيرها من الأنشطة، يجب أن يكون هناك تعاون، أن يكون باستطاعتنا تمثيل مشاهدنا في الشارع دون أن يعترضنا عسكري ويوقف التصوير، يجب على الحكومة أن تسهل علينا المهمة، وتقوم باستخراج تصاريح للتصوير في أي مكان، لأنَّ ما نقوم به يكون من أعمال تعالج قضايا مجتمعية مهمة، من أبسط حقوقنا أن يكون التصوير متاحاً بالنسبة لنا في أي مكان”.
لا يوجد منتجون
وأضافت صفاء زيدان: “قطاع الدراما لا يجد دعماً، لا من الحكومة ولا من القطاعات الخاصة، كل الدراما التي تبث عبر اليوتيوب والقنوات اجتهادات شخصية، إنتاج شخصي، بتوفير مال شخصي، حتى إنَّها تستدعي أن يبيع الدرامي دهب مرتو عشان ينتج دراما، عشان تكون الدراما حيَّة وموجودة. قليل جداً من الجهات تدعم الدراما، ويصب هذا في مصلحتها أولاً، وغالباً ما تكون جهات إعلانية، نحن نحتاج دعم الجهات الحكومية المسؤولة عن الدراميين، نحتاج تسهيل العمل الدرامي. يعني مثلاً، المسرح القومي يحتاج لصيانة وعمل كبير لتنتج عليه أعمال مسرحية، يحتاج لأن تصرف عليه أموال طائلة ليصبح متاحاً لنا وللجميع”.
وعن الأدوات الفاعلة في الدراما، قالت صفاء: “أدوات الدراما متوفرة، من الكتاب، والمخرجين، والممثلين، وكادر العمل، لكن لا يوجد منتجون لإنتاج دراما ضخمة ترفع مستوى القطاع ليثبت داخلياً ويلقى حظه من الانتشار خارجياً، الإنتاج الضخم معدوم في السودان، وأغلب الشباب اتجهوا للإنتاج الفردي وبثه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت المنفذ الوحيد لبث أعمالهم الدرامية، نحن كممثلين لا نجد دعماً كافياً لا من المنتجين ولا من الدولة”.
معاناة
وقالت الممثلة الشابة، هبة الرحمن عبد الرحمن سليمان: “أهمية الدراما لا تخفى على أي إنسان، تتمثل في بساطة توصيل المعلومة لأي فرد، الدراما مهمة، والمسرح أبو الفنون. لكنَّ الموجع، أنَّ الناس المنوط بيهم معالجة قضايا المجتمع، والدفاع عن حقوقه هم أكثر الفئات التي تعاني، وأكثر الفئات التي لا تجد دعماً، وأكثر الفئات مهضومة الحقوق”.
وتحدثت هبة عن الصعوبات التي تواجه القطاع وقالت: “أكبر الصعوبات التي تواجه قطاع الدراما هي الإنتاج، الفعل الدرامي يحتاج للإنتاج، بالتالي يحتاج للمال الذي لا يقوم بغيره، وهذا للأسف غير متوفر، وتحولت المسألة لاجتهادات شخصية من بعض الممثلين، والدفع من جيبهم الخاص لإنتاج دراما حقيقية، لذلك دائماً نقول إنَّ الدراما لا يصبر عليها إلا من يحبها، ويبقى المردود معنوياً، بالمحافظة على الوجود الدرامي فقط”.
وأوضحت أنَّ الإنتاج في السودان ينقسم إلى: أولاً: إنتاج ذاتي، وهو يحتاج لشخص وضعه مستقر، ليس ميسوراً، لأنَّه نادر ما تنطبق كلمة (ميسور) على درامي – على حد وصفها – يقوم بإنتاج العمل، والعائد ينتج به عملاً ثانياً، وقالت: “يعني تشيل من الموية وترجع للموية دون فائدة”.
ثانياً: دعم الشركات، أي قصد الشركات والجهات سواء حكومية أو خاصة لرعاية المادة أو الفكرة، ورفع الميزانية المجدولة، ثم اقتسام العائد، بالترويج للشركة، والمال للمثل وكادر العمل.
عدم اعتراف
وأبانت هبة أنَّ من الصعوبات أيضاً أنَّ المنتجين ليس لديهم اعتراف كامل بالدراما كفعل حي من الممكن أن يساعدهم إعلانياً، لذا هم يفضلون إنتاج المادة الإعلانية وتجاهل الدراما، وقالت: “نحتاج لأن يكون هناك اعتراف بالدراما وإيمان كامل بدورها، للدولة أيضاً دورها، هي تجهل ماهية الدراميين وتأثيرهم، وتجهل احتياجاتهم لخلق واقع درامي متوازن، حتى وزارة الثقافة تتعامل مع الدراميين كجزء مهمل”. وأضافت: “أبسط الأشياء، المسرح القومي يحتاج لصيانة، يوجد ماء تحت خشبة المسرح، لذا لا يمكن الجلوس عليه، مما أحدث تلامساً كهربائياً في كل جزء تلمسه بيدك، بيئة المسرح غير صالحة لممارسة المهنة ولا للإبداع والوزارة لا تهتم، وعندما نتقدم بشكوى تطالبنا بضرورة وجود جسم يمثل الدراميين لمخاطبته، ولا يمكننا تكوين جسم في الوقت الحالي، فالدولة لم تجز قانون النقابات بعد، والاتحاد السابق تمَّ حله”.
عتاب على طاولة الوزير
ووجَّهت هبة صوت لوم شديد اللهجة لوزير الثقافة والإعلام، الأستاذ فيصل محمد صالح، وقالت: “الدراميون جزء من التغيير، وكان لنا دور فاعل فيه بداية بالشوارع وليس انتهاء بخيمة الدراميين في ساحة اعتصام القيادة العامة، وهو ليس مناً على الوطن، بل هو واجب على كل إنسان، ولكن للأسف لم ينعكس هذا التغيير علينا كدراميين، ولا على الدراما كقطاع مهم. ومنذ تولي السيد الوزير المهمة إبان حكومة التغيير لم يهتم بواقع الدراميين، ولم يسعى لحل مشاكلهم، ولم يجدوا منه الدعم الذي يوضح مدى اهتمام وزارته بالدراما”. وتمنت هبة أن تلتفت وزارة الثقافة والإعلام للدراميين قليلاً، وتجلس معهم، وتستمع لهم.
كما طالبت بضرورة الوحدة بين الدراميين من الجيل السابق وحتى القادمين الجدد، وتفعيل نظرية النقد المهذب، ومعرفة الحقوق والطريقة المثالية للمطالبة بها، والإسراع في إنشاء جسم يمثل الدراميين ويتحدث باسمهم لحل مشاكلهم، وبيئة صالحة تقوم بانسجام الجيل الجديد المسلح بالمعرفة والوعي والجيل السابق المسلح بالخبرة.