الهادي هبّاني
من المتوقع جدا ان يتم إعفاء السودان من جزء أو كل متأخرات وفوائد الديون الخارجية ضمن مبادرة هيبك وأن يخرج مؤتمر باريس بوعود وتصريحات وتفاهمات تعزز ذلك. وهذا ليس مستغربا فالمسالة أصلا تعتبر جزء لا يتجزأ من صفقة يجري استكمال جوانبها منذ البداية يقوم بموجبها السودان بالتطبيع مع اسرائيل ضمن اتفاقيات إبراهام التي تمثل مجموعة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وتنفيذ شروط الصندوق والبنك الدوليين والارتهان لرأس المال العالمي والمشروع الإمبريالي لترتيب المنطقة. ولكن لابد من الإشارة لبعض الجوانب المهمة التي نلخصها فيما يلي:
أولا: ليس هنالك ثمة طريقا واحدا دون غيره كما روجت له الحكومة الانتقالية وقطعت شوطا طويلا في سبيله للإعفاء من الديون، بل هنالك طرقا عديدة معروفة ومجربة، ولكنها لا تخرج إلا عبر بوابتين لا ثالث لهما إما بوابة التبعية والتفريط في السيادة الوطنية وهي البوابة التي تسير في طريقها قاطرة الحكومة الانتقالية (مركب الهبوط الناعم)، أو البوابة الوطنية التي تقوم على التمسك بالسيادة الوطنية والمعايير المهنية والعلمية والمفاوضات القائمة على الندية والاستقلالية في اتخاذ القرارات. وأن هذا الإعفاء المتوقع علي هامش مؤتمر باريس وفقا لقاطرة الحكومة الانتقالية لا يعتبر إنجازاً في حد ذاته فإلغاء الديون، برغم أنه كان ولا يزال بنداً رئيسيا مضمنا في برنامج السياسات البديلة والبرنامج الاسعافي ومخرجات المؤتمر الاقتصادي الأول أو برامج الثورة وفقا للبوابة الوطنية الا انه لم يحتل المرتبة الأولي في أولويات وترتيبات قوي الثورة ولم يعتبر مفتاح الحل الأساسي للازمة الاقتصادية وشرطا استباقيا للإصلاح الاقتصادي بل قد كان ولا يزال مطروحا في برامج الثورة تلك كنتاج طبيعي للإصلاح الاقتصادي الذي حددته تلك الوثائق وفقا للخيارات والبدائل الوطنية وليس شرطا مسبقا له، وأن ديون السودان سيتم إلغائها أو تخفيفها وفقا لهذا الطريق ضمنيا كنتاج طبيعي لتنفيذ برنامج السياسات البديلة والبرنامج الاسعافي ومقررات المؤتمر الاقتصادي دون الحاجة لتقديم تنازلات او صفقات علي حساب السيادة الوطنية.
ثانيا: من المفترض علي الحكومة الانتقالية التي من الطبيعي أن تكون هي الحكومة التي تمثل قوي الثورة وتعمل علي تحقيق برامجها المذكورة وقبل التفكير في التوجه للعالم لإلغاء هذه الديون أن تقوم بداية بحصر هذه الديون والتحقيق فيها ومعرفة شروطها وأوجه صرفها وهل السودان استفاد منها أم أنها انتهت إلي جيوب طفيلية الحركة الاسلامية والمتنفذين في سلطة النظام البائد وحلفائهم الباقين حتي الآن علي قمة الهيمنة الاقتصادية ومكاشفة الشعب بكل تفاصيل ذلك وملاحقة المفسدين الذين سرقوا واستفادوا من هذه الديون لمصالحهم الخاصة وإعداد ملفات قانونية متكاملة تستخدم محليا ودوليا لملاحقة مجرمي هذه الديون واستعادة الاموال المنهوبة ومطالبة كل الدائنين من دول نادي باريس وأمريكا وغيرها للمساعدة علي استعادتها وفقا للاتفاقيات والمواثيق الدولية المعروفة لملاحقة الأموال المنهوبة المهربة للخارج. فالسعي لإلغاء هذه الديون دون ذلك يفتح الباب على مصراعيه لتكرار نفس الجرائم طالما أن مرتكبيها يفلتون من الملاحقة والمساءلة ويكون بمقدور أي جهة تعتلي السلطة في البلاد أن تقترض ما شاء لها من اموال وتوظفها لمصالحها الخاصة ومصالح القوي الاجتماعية الممثلة لها وتسعي في نفس الوقت لتقديم تنازلات علي حساب سيادة البلاد الوطنية من أجل إعفاء هذه الديون كليا أو جزئيا ويصبح اسم السودان مجرد جِسر بالنسبة لها للحصول علي أموال مؤسسات التمويل الدولية وتوظيفها لمصالحها الخاصة دون التحسب لأي محاسبة او ملاحقات قانونية.
ثالثا: واضح أن هدف الحكومة الانتقالية واستراتيجيتها من الغاء الديون بأي وسيلة أو ثمن وفقا لبوابة التبعية والتفريط في السيادة الوطنية هو الحصول على مزيد من الديون التي ستستفيد منها الطفيلية المتحكمة حاليا في كل مفاصل الاقتصاد، وتسوية استحقاقات جنرالات الحركات المسلحة وتجار الحروب الأهلية وفقا لاتفاق جوبا. وهو ما تعنيه الحكومة الانتقالية بمكوناتها المختلفة بمصطلح (انخراط السودان في المجتمع الدولي) الذي يتم ترديده واستهلاكه بشكل يومي عبر كافة المنابر الحكومية والمقصود منه في حقيقة الأمر هو انخراط الطبقة الطفيلية الحاكمة في السودان بكل مكوناتها في المجتمع الدولي وليس السودان. والنتيجة هي تراكم الديون واستبدالها بديون جديدة أكثر قسوة وأعلي تكلفةً من الديون الحالية والتي ستصبح عبئا جديدا على عاتق الشعب كالما هو الذي سيدفع ثمنها في نهاية الأمر دون أن يكون لديه أي علم بقيمتها الحقيقية وشروطها وتكلفتها وكيف تم صرفها وفي أي مشاريع تم استخدامها وستنتهي كسابقتها في عالم المجهول لا يعلم الشعب عنها شيئا غير التراكم السنوي والتزايد المستمر لفوائدها ومتأخراتها كم يحدث اليوم.
رابعا: لا تُبني استراتيجيات التنمية والتخطيط الاقتصادي على الاقتراض من الخارج وإنما بالوقوف أولا علي مشاكل التنمية الاقتصادية ومعوقاتها وتحديد متطلباتها وأولوياتها والمشاريع التنموية والخدمية اللازمة لتحقيقها وحساب تكلفتها واحتياجاتها التمويلية والوقوف علي الموارد المحلية أو المكون المحلي الذي يمكن أن يتم بموجبه تمويل كل أو جزء من هذه المشاريع وبحث كل البدائل الوطنية التي يمكن بموجبها تعظيم هذه الموارد المحلية بما يضمن الاستقلالية والابتعاد عن الاقتراض من الخارج، ومن ثم يتم تحديد الفجوة التمويلية التي تحتاج إليها تلك المشاريع التنموية التي يمكن أن يتم تغطيتها بالاستدانة من الخارج وتحديد الجهات التمويلية التي يمكن الاقتراض منها وتحديد الهيكل والشروط التي بموجبها تتم هذه الاستدانة وفقا لمصلحة البلد أولا وأخيرا ولما تقتضيه أولويات التنمية وأن تكون هذه القروض قروضا ميسرة بتكلفة أقل وفوائد صفرية وفترات سماح طويلة وتسهيلات في السداد أو إعانات مستحقة من المؤسسات الدولية التي يعتبر السودان عضوا فاعلا فيها منذ منتصف القرن الماضي دون إملاء أي شروط أو مساس للسيادة الوطنية وأن تكون في حدود ضيقة جدا وموجهة للبنيات التحتية وتنمية القطاعات الانتاجية والخدمية الكبري وبرامج مكافحة الفقر والصحة والتعليم والبيئة. وفوق ذلك أن تكون هنالك شفافية مع الشعب في كل تفاصيل هذه القروض والإعانات ويتم اعتمادها من قبل المؤسسة التشريعية الممثلة له وأن تخضع عملية تنفيذها واستخدامها والإشراف عليها لرقابة شعبية دورية من خلال تقارير دورية من وزارة المالية والمؤسسات التنفيذية ذات الصلة تكون منشورة ومتاحة للجميع دون استثناء يسهل الحصول عليها بالسرعة المطلوبة ويتم مناقشتها سنويا في المؤسسة التشريعية المعبرة عن الشعب ومحاسبة أي جهة تتجاوزها أو تنحرف عنها.
الهادي هباني
alhadihabbani@hotmail.com