خطبة الجمعة..
الحمد ﻟﻠﻪ الملك المقدر العزيز المدبر (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ فِيْ المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) [الإسراء: 111] نحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (لَهُ مُلْكُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيْكٌ فِيْ المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرَاً) [الفرقان: 2] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ خيره ربه أن يكون ملكا نبيا، أو عبدا نبيا فاختار النبوة مع العبودية، وخيره عند موته أن يؤتيه خزائن الأرض والخلد فيها ثم الجنة وبين لقاء الله تعالى فاختار لقاء ربه عز وجل، قالت عائشة رضي الله عنها تصف اللحظة الأخيرة من حياته عليه الصلاة والسلام: ”فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى فقلت: إذن لا يختارنا، قالت: فكانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى“ صلى لله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وآمنوا برسوله واتبعوه؛ ففي ما جاء به الرشاد والهداية والكفاية (قُلْ يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ إِنِّي رَسُوْلُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيْعَاً الَّذِيْ لَهُ مُلْكُ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيْتُ فَآَمِنُوا بِاﻟﻠﻪ وَرَسُوْلِهِ الْنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِيْ يُؤْمِنُ بِاﻟﻠﻪ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوْهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْنَ)[الأعراف: 158].
أيها الناس:
من يؤتي الملك ويهيئ أسبابه لمن يريد هو الذي يمنعه عمن شاء ولو طلبه، وينزعه ممن يشاء ولو تشبث به؛ فالملك ﻟﻠﻪ تعالى وبيده (قُلِّ الْلَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) [آل عمران: 26] وكما أن لإيتاء الملك وثباته أسبابا فإن لنزعه وزلزلته أسبابا أيضا، وأعظم أسباب نزعه الظلم بأنواعه كلها، فسنة الله تعالى ماضية في أنه لا بقاء للملك مع الظلم (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الْظَّالِمِيْنَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ*بَعْدِهِمْ)*[إبراهيم: 13- 14 ]. فصلاح الدنيا يكون بالعدل، كما أن صلاح الآخرة يكون بالإيمان والعمل الصالح؛ ولذا قيل: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: أما بعد؛ فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالا نرمها به. فرد عليه: أما بعد؛ فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم؛ فإنه مَرَمَّتُها. والسلام.
أيها الناس:
إن للملك غنما وغرما في الدنيا وفي الآخرة؛ فغنمه في الدنيا الرفعة والشهرة والرياسة وخضوع الناس، وغرمه في الدنيا لمن قام به السهر على مصالح الرعية، والتعب في إدارة شئون الدولة، وإحاطتها بأسباب القوة والهيبة والمنعة. وأما غنمه في الآخرة فأجر عظيم لمن قام بحقه، وأول السبعة الذين يستظلون في ظل الرحمن يوم القيامة: إمام عادل، والمقسطون من الحكام على منابر من نور عن يمين الرحمن، وهم الذين يعدلون في حكمهم. وأما غرمه في الآخرة فطول الحبس بكثرة المظالم، وغش الرعية يوجب الحرمان من الجنة. ومن أراد غنم الملك في الدنيا لكنه لم يتحمل غرمه صار إلى الظلم، وسلط أعوانه الظلمة على الناس، فينزع لله تعالى منه الملك، وقد عبر الله تعالى عن ذهاب الملك بنزعه (وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) لأن من اتخذوا الملك غنما لا يتخلون عنه بسهولة، ويتشبثون به تشبثا شديدا؛ لأجل غنمه، فينزعون منه نزعا، والنزع هو شدة القلع وهي مقابلة لشدة تمسكهم به.
أيها الناس:
إذا أراد الله تعالى إسعاد أمة جعل حاكمها مقويا لما فيها من الاستعداد للخير، حتى يغلب خيرها على شرها، فتكون سعيدة، وإذا أراد إهلاك أمة جعل حاكمها مقويا لدواعي الشر فيها حتى يتغلب شرها على خيرها، فتكون شقية ذليلة، فتعدوا عليها أمة قوية، فلا تزال تنقصها من أطرافها، وتفتات عليها في أمورها، أو تناجزها الحرب فتزيل سلطانها من الأرض، يريد الله تعالى ذلك فيكون بمقتضى سننه في نظام الاجتماع، فهو يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ومن قرأ التاريخ البعيد والقريب وجد فيه أعاجيب من أنواع تقدير الرب سبحانه في نزع الملك؛ وﻟﻠﻪ تعالى شؤون كثيرة في خلقه (يَسْأَلُهُ مَنْ فِيْ الْسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِيْ شَأْنٍ) [الرحمن: 29 ] فمن يتعظ ! نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يجعلنا من عباده المتقين، إنه سميع مجيب.. وأقم الصلاة..
الجريدة