العدالة الإنتقالية !! كثير من المعضلات تكتنف هذا الملف تستوجِب النظر والبحث فيها من المُهتمِّين منذ وقت مبكر
سيف الدولة حمدنا الله
ليس هناك أيِّ إستباق للنتائج أو قفز على المراحل في تناول ملف العدالة الإنتقالية التي تعقب تغيير النظام بالبحث الآن، فذلك أمر لازم سواء سقطت الإنقاذ اليوم أو في أي وقتٍ لاحق مهما طال عليه الزمن، وأهمية البحث المبكِّر في هذا الملف تأتي من واقع التجربة البائسة للتعامل مع موضوع العدالة الإنتقالية عقب سقوط نظام النميري في عام 1985، فقد تم إجهاض العدالة في تلك الحقبة بسبب تطاول إجراءات المحاكمات، وإفراط النائب العام الإنتقالي في إجراء التسويات المالية مع الضالعين في قضايا الفساد، وعدم إعتبار أولوية النظر في القضايا، فقد إهتمت الحكومتين الإنتقالية والمنتخبة – مثلاً – بحسم موضوع تعويضات أراضي آل المهدي وممتلكات زعيم الحزب الشيوعي المرحوم د. عز الدين علي عامر التي كانت قد صادرتها حكومة النميري، في الوقت الذي لم تهتم فيه بمعالجة قضايا أولى مثل التحقيق في قضية الأشخاص المفقودين في حراسات جهاز الأمن (لا يزال مصيرهم غير معروف) وقضايا التعذيب وتعويض أسر شهداء وجرحى المظاهرات، فقد أُزهق نظام النميري أرواح عدد من الشباب في منطقة الشجرة وأمدرمان وأُصيب آخرون وهؤلاء لا يزالون أبطالاً مجهولين، فيما عدا محاكمة واحدة شملت خمسة من عناصر جهاز الأمن كان من بينهم النقيب عاصم كباشي الذي عاد إلى ممارسة عمله فور مجيئ الإنقاذ، وتمثّلت قمة ضياع العدالة الإنتقالية لتلك الفترة في إستخدام النائب العام (د. حسن الترابي) سلطته في وقف محاكمة المتهمين في كبرى قضايا الفساد في ذلك الوقت (قضية البترول) التي كان يُحاكم فيها الدكتور شريف التهامي مع آخرين.
ما تسبب في ذلك الفشل، أن مسألة العدالة الإنتقالية لم تُحظَ بإهتمام يُذكر من أهل القانون والسياسة بشكلٍ مُسبق على النحو الذي ندعو إليه الآن، وقد تُرِك أمر تطبيق العدالة الإنتقالية لتقدير الأشخاص الذين عُهِد إليهم بمنصب وزير العدل والنائب العام في تلك الفترة (عمر عبدالعاطي وحسن الترابي على التوالي)، وقد حدث ذلك برغم أن ملف العدالة الإنتقالية في تلك الفترة لم يكن بمثل التعقيد الذي يُجابه به اليوم، لا من حيث النوع ولا من حيث عدد الضالعين في قضايا الفساد والقتل والتعذيب.
ثُم أن هناك كثير من المعضلات تكتنف هذا الملف تستوجِب النظر والبحث فيها من المُهتمِّين منذ وقت مبكر، وتتلخص في: إيجاد معالجة تشريعية للنصوص القانونية التي تم سنّها في عهد الإنقاذ والتي تقضي بسقوط الجرائم بالتقادم بمضي مدة معينة أقصاها عشرة سنوات من تاريخ إرتكاب الجريمة، والتي قُصِد منها ضمان عدم المساءلة عن جرائم الفساد والجرائم الوحشية التي أُرتُكِبت في هذا العهد، وبمقتضى هذه القاعدة، تُعتبر معظم قضايا الفساد (خاصة المتعلقة بنهب أموال البترول) قد سقطت نظرياً بالتقادم، وهي معالجة يكتنفها تعقيد لإصطدامها بالقاعدة الذهبية في القانون التي تقضي بعدم جواز سريان القوانين العقابية والإجرائية الجنائية بأثر رجعي إلاّ إذا كانت في مصلحة المتهم. كما أن هناك عقبة أخرى تتصل بإتساع دائرة المشمولين بالتحقيق في قضايا الفساد والقتل والتعذيب وجرائم الحرب، في مقابل توفُّر الكوادر المؤهلة للقيام بإجراءات التحقيقات والمحاكمات.
من حسن حظ الوطن أن يكون من بين أبنائه شخص عالِم وهميم مثل أستاذ الأجيال علي محمود حسنين الذي عكف منذ فترة طويلة على إعداد مسودة لقانون الإجراءات الجنائية وأصول المحاكمات، وقد توصّل الأستاذ حسنين لإيجاد المخرَج القانوني الذي يُمكن معه إبطال التعديلات التي أدخلها نظام الإنقاذ في خصوص سقوط الجرائم بالتقادم، إلى جانب وضع إجراءات أخرى لضمان سرعة البت في القضايا دون المساس بعدالة المحاكمات، وقد طرح الأستاذ حسنين هذا المشروع للمناقشة في أوساط عدد من رجال القانون.
في الجانب الآخر، أفضل صنيعة قدمها القضاة الذين تمّت إحالتهم للتقاعد للصالح العام وكذلك الذين تقدموا بإستقالاتهم تضامناً مع المفصولين أو بسبب عزوفهم عن الإستمرار في العمل نتيجة التجاوزات والإنتهاكات التي تعرّض لها القضاء فيما بعد، أن هؤلاء القضاة إرتبطوا طيلة الثلاثين عاماً الماضية مع بعضهم البعض تحت جسم بإسم (القضاة السابقين)، وحُسن الصنيعة في هذا العمل، أن هؤلاء القضاة برغم إنخراطهم في أعمال قانونية أخرى، إلاّ أنهم تمسكوا بإستمرار هذا التنظيم ليكون بمثابة (المخزن) الذي إستطاعوا أن يحفظوا فيه بالمناقشة والتداول المستمر كل المبادئ والتقاليد المهنية، كما واظبوا من خلاله على رصد الإنتهاكات والممارسات التي حدثت في شأن إستقلال القضاء والإنتقاص من دوره في حماية الحريات، ومن بينهم كثيرون من لديهم الإستعداد للإسهام في إعادة بناء السلطة القضائية من جديد، وإحياء مبادئ العدالة التي كادت أن تندثر في ظل هذا النظام.
من المحزن القول، أنه وبسبب تطاول عمر الإنقاذ، فقد غيّب الموت كثير من القضاة الأفذاذ الذين كان يُمكن أن يكون لهم إسهام مُقدّر في إعادة بناء السلطة القضائية، بعد أن كانوا قد سخّروا حياتهم في فترة ما بعد إنقلاب الإنقاذ في سبيل النضال من أجل التغيير وإستعادة هيبة وصلابة القضاء، نذكر منهم القضاة الأجلاّء بابكر القراي وطه أحمد طه سورج وأحمد أحمد أبوبكر، والواقع أنه ليس هناك مُتسع كبير من الوقت حتى للأحياء من قضاة ذلك الجيل للقيام بهذه المهمّة، فأصغر القضاة الذين أحيلوا للصالح العام بداعي الإقصاء أو إستقالوا من العمل إحتجاجاً على إنتهاكات إستقلال القضاء يزحف – إن لم يتجاوز – نحو سن الستين. (وينطبق ذلك أيضاً على ضباط الشرطة والجيش الوطنيين).
لا يعني ذلك أنه لا يوجد هناك قضاة شرفاء ووطنيون حاليون بالخدمة، فالوطن لا يزال بخير، فهناك من الأجيال الصاعِدة بالمهنة قضاة شجعان ووطنيين يقاومون بكل السبل المُتاحة تقاعس رؤسائهم وتجاوزاتهم في تطبيق القواعد السليمة التي تحكم المهنة، وهؤلاء عانوا كثيراً وهم يصدِرون الأحكام القضائية وفق ما تُمليه العدالة والضمير المُستيقظ ويدفعون ثمن ذلك تعسُّفاً في التنقلات والتجاوز في الترقيات والأقدمية.
وبالمثل، هناك وكلاء نيابة نزهاء وشرفاء، وقد تقدم (60) وكيل نيابة من بينهم بمذكرة للنائب العام إعترضوا فيها على تسخير وكلاء النيابة في مهمة تفريق التظاهرات السلمية لكونها لا تُخالف القانون، ومخالفة النهج الذي إستخدمته السلطات في فض الاحتجاجات والاعتصامات لقانون الاجراءات الجنائية، كما أورد وكلاء النيابة بالمذكرة إنتقاد سماح السلطات بتنظيم التجمهرات التي يخاطبها الرئيس البشير في الوقت الذي تُجابه فيها التجمهرات المناوئة له بالعنف المُفرط لتفريقها بما يصل إلى تسبيب الموت .